معلومات لا تعرفها عن "فنان العرب" محمد عبده في عيد ميلاده ال71
خرج محمد عبده من منطقة الخليج بكل تقاليدها المحافظة وعاداتها الراسخة إلي أفاق أوسع وأرحب..
قد لا يدرك الساذجين أن صوته اجتاز كل الموانع البيئية التي كان من الممكن أن تقف حائلا بينه وبين جماهيره في أرجاء الوطن العربي المختلفة, وسكن وجدانهم وعبرت أغنياته عن آلامهم الإنسانية وأفراحهم الشخصية.
محمد عبده أستطاع أن يفرض نفسه علي آذان اعتادت أن تسمع ألوان غنائية ترسخت عبر سنوات عديدة, واحتفظ لنفسه بمكانة مميزة جعلته بحق فنان العرب.. وليس فنان سعودي أو خليجي يعيش فقط في أجواء منطقته بثقافتها وخصائصها, وهو الأمر الذي فعله من قبل صباح فخري ووديع الصافي وفيروز, والاستثناء في زمن المتشابهات الست أم كلثوم.
أعرف سيدة فقدت أبنها في ريعان شبابه.. عندما تسمع أغنية (الأماكن) تذرف دمعا سخنا من عينيها.. تدغدغ المعاني مشاعرها.
وتطحن ما تبقي لها من مقاومة, ورغم ذلك تحرص علي سماعها فهي تختصر حكايتها مع فلذة كبدها.. حيث يجتر صوت محمد عبده كل آلامها وذكرياتها ويشخص ولدها أمامها فتبكيه مرة ومرتين وألف ولا تمل من سماعه.
وتقول أنه الشجن الجميل الذي يجعلها تشم رائحته حتي تكاد تحس به أمامها.. ترسل إليه الدموع بينما ابتسامته تنير وجهه.. قالت لي يوما هل تعرف لماذا غني محمد عبده هذه الأغنية.. قلت : لا أعرف: قالت غني هذه الاغنية "عشاني أنا".. صدقتها""
الفن هواية.. مارسها خارج الزمن غير المحسوب بتوقيتات الوكلاء ومتعهدي الحفلات الملزمة.. وهذا لا يعني الفوضوية بقدر ما يعني تنظيم المشاعر وصيانتها بدقة ودون افراط حتي لا تفقد طزاجتها وإنسانيتها وقيمتها.
والحلم كان بعيدا بعيدا في أجواء ضبابية انقشعت رويدا رويدا في رحلة شاقة اقتضت الكر والفر والمواجهة والجرأة والمعاناة في محاولة لإضافة معاني أخري لتوسيع مفهوم الهوية الثقافية وليس تغييرها أو إلحاق الضرر بها.
رغم تناول أغنياته كل معاني البوح والصراحة والصدق.. والولع أحيانا.. نجد كثير من الحرمان والرجاء وانتظار الفرحة أو استدعائها في أصعب الظروف.. ويظل في صدره كثير من الأسرار لم يفصح عنها بعد.. تلك الصورة الفضفاضة في مجتمع محافظ يحاول قدر الإمكان التشبث بإطاراتها الخارجية حتي وأن تألم داخليا.
لذلك نزعم أن كثير من المعاني يتوق إليها لكنه يحاول فك القيود المكبل بها للانفلات المشروع إلي الانفراجات الواسعة ليس بشكل شخصي ومتمرد, ولكن من أجل إسعاد الاخرين.
يجيد الكلام, لكنه يحسب للكلمة ألف حساب, ودائما يفكر قبل أن ينطق لسانه بأي حرف قد يفهم علي معني ملتبس.. أبيض وأسود لونان رئيسيان لا تدخل بينهما الألوان الأخري.. عائلته هي مجتمعه الكبير الصغير, يتلفح بهما ويتدثر من خلالهما ليقي نفسه موجات الأعاصير والرياح الغاضبة.. ربما يكون اليُتم المبكر دفعه بوعي إلي تكوين أسرة كبيرة تعوضه عن تلك الطفولة القاسية.
تحمل المسئولية صغيرا وكانت الأم العراب والدليل والمعين والدافع واختصرت الرعاية في دعاء (ربي يحبب فيك المتقين) خشيت عليه من الفن لكن دعمها كان بلا حدود في وقت كان الاشتغال بالموسيقي والغناء جنوحا عن المألوف في أرض عفية مليئة بالأشواك.. ومجتمع شديد المحافظة .. وهذا يجعلنا أن نقول أن الانفراجة التي حدثت في السنوات الأخيرة جاءت نتيجة تراكمات تحملها جيل من المبدعين الشجعان كان محمد عبده في طليعتهم, وواحد من هذه الكتيبة المقاتلة التي استطاعت أن تبطل كثير من الألغام في تلك الأرض العصية المملؤة بالممنوعات, ونجح في انتزاع فتيل التفجير وبسط من خلال فنه كل النتوءات حتي صار الطريق ممهدا لظهور أجيال وأجيال ملأت الساحة بابداعاتها.. وقد تحمل الكثير وعاني الكثير في البدايات.
لم يخرج ابن القبيلة عن العادات الموروثة التي تربي عليها وشكلت وجدانه وثقافته.. كا نوثيق الصلة ببيئته وحدودها الجغرافية والتاريخية ولم يخلع الثوب السعودي تحت أي اغراء, وهذا ما يفسر الحب الجارف الذي يحظي به من أهله وناسه في المملكة.
كان يعي أن الفن قوة ناعمة تستطيع أن تلين من خشونة الطباع وعصبية الثوابت البالية عند البعض دون المساس بالقيم الأخلاقية, لذلك كانت معركته مع التغيير شرسة ومستمرة.. ولولا صلابته وتماسكه لأسقط سيفه واخفض رأسه وأعلن الانسحاب المبكر لكنه واصل, وهو أمر لو تعلمون شقيا.
يدين بالبيعة التي أولتها اياه حكوماته المختلفة فظل حافظا للجميل ومقدرا للامانة التي طوقت عنقه, هو ابنا بارا صان العهد ووفي بالوعد, فلم تكن الأولوية والأفضلية هبة, بل كانت استحقاق استحقه.. ولم يجد في الأمر تمييز بل ثقة في امكاناته وقدراته ودوره الوطني في النهوض بمجتمعه من خلال فنه.
يتسم محمد عبده بالتواضع الشديد والذكاء في توظيفه دون المساس بكبرياءه كفنان وقدوة, عندما تحاول "المحاورة" أن تستفسر عن امكانية غناءه تتر مسلسل يقول بعد أن تضيق الخناق عليه: أنه يري نفسه في مكانة تجاوزت هذه المرحلة, وهو ليس تعاليا بقدر ما هو تقديرا للقمة التي اعتلاها وتلزمه ببعض القيود لا يملك منها شيئا.. وهذا الأمر وثيق الصلة بعدم رغبته في توثيق حياته دراميا, وللرفض خصوصية جعلت منه هذا الزخم الفني العريق, فهو يدرك أنه من الأشياء الثمينة التي تملكها المملكة, لذا يحافظ علي نفسه لأنه ببساطة يضع وطنه نصب عينيه.
رحلة عصيبة من القرية إلي المدينة من غير امكانات أو قدرات, وعند ايجاز الصورة وتبسيطها من غير حبوب أو اضاءة أو متاع متواضع, عاني بلا شك شظف العيش وكان "الرباط" مرحلة في حياة مليئة بالكفاح, والرباط كما يوضحه المقريزي هو "مكان تودع فيه النساء اللاتي طُلقن أو هُجرن أو ترملن حتى يتزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن رعاية لهن، وفيها من شدة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات".. وعندما يحكي عن هذه الفترة لا يجد غضاضة في سرد التفاصيل بذاكرة خصبة لا تنسي شيئا.
كانت لرعاية الملك فيصل, ولي العهد حينذاك الاثر الايجابي في مشروعية أن يحلم لحياته وحماية من السقوط والرضوخ للظروف القاسية من خلال طفولة امتهن فيها أعمال شتي في مجتمع كان يسوده التكافل والمحبة, وهو ما جعل العجلة تدور حتي وإن كان الدوران بطيئا لكنها كانت تيسر الحياة, سرعان ما تسارعت وهرولت ليقتطف ثمار تلك الأحلام البعيدة التي كان يظنها البعض أنها مستحيلة.. مشوار صعب ملئ بالدروس والعبر لكل الساعين لتحقيق أحلامهم, الرحلة طويلة وهو أمر يستدعي التوضيح والتفصيل في كتابات أخري, وقد نفعلها.